"
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " ( سورة الزمر/53)قبل التطرق لتفسيرها نذكر أولا سبب نزولها...
أولا :سبب النزولذكر الفقهاء عدة أسباب لنزول هذه الاية منها:
*-عن ابن عباس «أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قَتلوا وأَكثروا، وزنَوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرُنا أَن لما عملنا كفارة فأنزل الله عز وجل هذه الآية : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم"صحيح البخاري.*- وعن ابن عباس أيضا نزلت في أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له , وكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله فأنزل الله هذه الآية .*- وقيل : إنها نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة , وخافوا ألا يتقبل منهم لذنوب سبقت لهم في الجاهلية .
قال الفقيه ابن عاشور:وقد رويت أحاديث عدة في سبب نزول هذه الآية غير حديث البخاري وهي بين ضعيف ومجهول ويستخلص من مجموعها أنها جزئيات لعموم الآية وأن الآية عامة لخطاب جميع المشركين .
ثانيا: تفسير الاية*-
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ:أي أخبر يا محمد عبادي المؤمنين الذين
أفرطوا في الجناية على أنفسهم بالمعاصي والآثام والغلو فيها..
يقول الشيخ النابلسي: إسراف تنوُّع أو إسراف شدَّة ، إما أنه ارتكب معصيةً كبيرةً جداً ، أو أنه ارتكب كل أنواع المعاصي ، كلاهما إسراف ..
وقوله تعالى :
" يا عبادي" فيه من الدلالة على الذلة و الاختصاص،المقتضييْن للترحُّم
*- لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ:لا تقنطوا:
نهي الهي.... أي لا تيأسوا من مغفرة الله
أولا و تفضله بالرحمة ثانيا.
*- "إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا" أي إنه تعالى يعفو عن جميع الذنوب لمن شاء، وإِن كانت مثل زبد البحر.
*-"إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" أي عظيم المغفرة واسع الرحمة.
الغفورُ : يستر عظام الذنوب
.الرحيم :يكشف فظائع الكروب.
فليس هناك ذنب أكبر من رحمة الله ...ولا ذنب أكبر من مغفرة الله فرحمة الله تسع كل الذنوب...
يقول الشيخ النابلسي: الإنسان إذا تعامل مع الله
أنت إذا تعاملت مع الله ، زلَّت قدمك ، انحرف سلوكك ، تورَّطت في معصية،
وقعت في انحراف ، فما عليك إلا أن تتوب ،فإذا تبت توبةً نصوحَ أنسى الله حافظيك ، والملائكة
، وبقاع الأرض كلَّها خطاياك وذنوبك ، كأن هذه المعاصي لم تكنْ ، وربنا جلَّ جلاله يُشْعِرُكَ
بذلك ، يشعرك أنه غفر لك ، تشعر أنك خفيف ، تشعر أن كابوساً أُزيح عن صدرك ، تشعر أن
الدنيا لا تسعك ، يا ربي لك الحمد ، أبداً يشعرك أنه غفر لك ، أنه قبلك ، تبت إليه فتاب عليك ، تابوا فتاب الله عليهم
، أقبلت إليه فقبِلَك ، تبت إليه فتاب عليك ، قلت : يا رب ،قال : لبيك يا عبدي .
المستفاد من الاية:هذه الاية الكريمة ترفع معنويات المومنين, فالمومن لا يقنط من رحمة الله ...،فما منا الا و يقع
في المعاصي ،تزل قدمه ، ينحرف نحو مخالفةٍ ، عليه الا يقعده اليأس
إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُسورة آل عمران : من آية
الكا فرون هم الذين يقنطون من رحمة الله
قال تعالى
:"إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"./يوسففكل إنسان مقصِّر, وكل مقصر بإمكانه أن يتلافى قصوره .لكن لا ينبغي أن نفهم هذه الآية ومثلها من آيات المغفرة والرجاء فهماً خاطئا، بأن يعتقد المرء أن الله تعالى عندما يقول:
"
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله"إذاً هو لا يقنط ، لكنه
مقيمٌ على معصيةٍ ويرجو الله عزَّ وجل ، هذا المعنى غير صحيح و ما أراده الله عزَّ وجل .......
يقول تعالى
"فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا" سورة الكهف : من آية " 110
ربنا جلَّ جلاله ربط
الرجاء ب
العمل ، إذا كنت راجياً فعلاً بادر إلى ا
لعمل ، بادر
إلى
التوبة ، بادر إلى
الاستقامة ، بادر إلى
العمل الصالح ،
توبتك ، واستقامتك ، وعملك الصالح يحقِّق رجاءك ، أما إذا رجوت الله عزَّ وجل وأنت على ما
أنت عليه من مخالفات ، ومن تقصيرات ، ومن تجاوزات فهذا رجاء البُلْه ، رجاء الحمقى ، رجاءٌ ما أراده الله ، ورجاءٌ ساذج ......
ربنا عزَّ وجل يقول في آياتٍ أخرى :
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عملا صالحا"سورة الكهف : من آية " 110"علامة رجائك مبادرتك إلى
العمل ، إلى
الطاعة ، إلى
البذل ، إلى
التوبة مما سلف منك من معاصي ، إلى
الائتمار بأمر الله عزَّ وجل،
إلى التقرُّب إليه ببذل الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، لا تقل: أنا أرجو الله ، وأنت على ما أنت عليه ، هذا ليس رجاء بل
هو
تمنِّيات.يقول تعالى
:"لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ"سورة النساء : من آية 123
الله جلَّ جلاله لا يتعامل مع التمنِّيات ، ما من إنسانٍ على وجه الأرض إلا ويتمنَّى أن يكون غنياً
،إلا ويتمنَّى أن يكون من أهل الجنَّة ، التمني كلام فارغ ،التمني لا يتعامل الله معه
أبداً .. "لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ "..
تمنَّى ما شئت ، أمنيتك لا ترفع عن مكانها شعرةً ، لكن الرجاء هو ما قارنه العمل
فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا سورة الكهف(110)
إذا كنت ترجو الله حقَّاً تتحرَّك ، بادر ، اقلع عن ذنبٍ ، بادر إلى عملٍ صالح ، التزم طاعة الله عزَّ وجل .
فإذا قلنا : إن هذه الآية أرجى آيةٍ في القرآن الكريم أي أن هذا
الرجاء يتبعه
العمل.